فصل: الآية التاسعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثامنة:

{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا (22)}.
{وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ} نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم.
{إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} هو استثناء منقطع: أي لكن ما قد سلف في الجاهلية فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد: أي بعد ما سلف. وقيل: المعنى ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله: {ما نَكَحَ آباؤُكُمْ} يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال: بمعنى إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا فلا يحلّ لكم غيره!... وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم- وصححه- والبيهقي في سننه عن البراء، قال: «لقيت خالي ومعه الراية. قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله». ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال: {إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتًا وَساءَ سَبِيلًا (22)} هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه «نكاح المقت» وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها.
ويقال لهذا الضّيزن وأصل المقت: البغض.

.الآية التاسعة:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)}.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي نكاحهنّ، وقد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآية ما يحلّ وما يحرم من النساء فحرّم سبعا من النسب، وستا من الرضاع والصهر، وألحقت المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع.
فالسبع المحرمات من النسب الأمهات. {وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ} أي البنات والأخوات والعمات والخالات {وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} هذا مطلق قيد بما ورد في السنة من كون الرضاع في الحولين إلا في مسألة قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة. وظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة. والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفاه الشوكاني في مصنفاته وقرر ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع، وذكرنا طرفا منه في شرحنا لبلوغ المرام.
{وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ} الأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الأخوة والأخوات، والأخت من الأم: هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر.
{وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ} فالمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء، والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها.
قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم.
وقال بعض السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم واحدة منهما إلا بالدخول بالأخرى.
قالوا: ومعنى قوله: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}: أي اللاتي دخلتم بهن. وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا، رواه خلاس عن عليّ. وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد.
قال القرطبي: ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة.
وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب، وبيانه أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات، على أن يكون الظريفات نعتا للجميع فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتا لهما جميعا لأن الخبرين مختلفان.
قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ}. ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها، دخل بالابنة أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة».
قال ابن كثير في تفسيره مستدلا للجمهور: وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا، فذكر هذا الحديث ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه، فإن إجماع الأمة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره.
قال في الكشّاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام اللّه تعالى. اهـ.
ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم.
واعلم أنه يدخل في لفظ الأمهات أمهاتهنّ وجداتهنّ وأم الأب وجدّاته- وإن علون- لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدنه، وإن سفل.
ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد، وإن سلفن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو أحدهما.
والعمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدّك في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم.
والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو أحدهما. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك. وبنت الأخ اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطته ومباشرة وإن بعدت وكذلك بنت الأخت.
والمحرمات بالمصاهرة أربع: أمّ المرأة وابنتها وزوجة الأب وزوجة الابن.
والربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة.
قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم، وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدّمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها. وقد روي ذلك عن عليّ.
قال ابن المنذر والطحاوي: لم يثبت ذلك عن عليّ لأنه رواه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي وإبراهيم هذا لا يعرف! وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه- على شرط مسلم.
والحجور: جمع حجر بفتح الحاء وكسرها، والمراد أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن، كما هو الغالب وقيل المراد بالحجور البيوت أي في بيوتكم.
حكاه الأثرم عن أبي عبيدة.
{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ}: أي في نكاح الربائب، وهو تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب: فروي عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع، وهو قول طاووس وعمرو بن دينار وغيرهما.
وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث: إن الزوج إذا لمس الأمّ بشهوة حرمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي.
قال ابن جرير والطبري: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. انتهى.
وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها واختلفوا في النظر: فقال الكوفيون إذا نظر إلى فرجها بشهوة كان بمنزلة اللمس بشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة.
وقال ابن أبي ليلى: لا يحرم بالنظر حتى يلمس، وهو قول الشافعي.
والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى الدخول شرعا أو لغة: فإن كان خاصا بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك.
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك.
وقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولو لم أكن لأفعله.
وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن اللّه حرّم ذلك في النكاح، قال: {وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ}، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح، إلا ما روي عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى.
{وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ} الحلائل: جمع حليلة وهي الزوجة، سميت بذلك لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ، فهي فعلية بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظ الحلال فهي حليلة بمعنى محللة وقيل: لأن كل واحد منهم يحل إزار صاحبه.
وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن. لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ}، وقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ}.
واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسدا هل يقتضي التحريم أم لا كما هو مبين في كتب الفروع؟
وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد لا تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده، وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليما لهم. ولو اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم. قال ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خلاف ما قلناه.
{الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وصف للأبناء: أي دون من تبنيتم من أولاد غيركم، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَرًا زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}. ومنه قوله: {وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ}. ومنه: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ}. وأما زوجة الابن من الرضاع فذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل: إنه إجماع مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قوله: «يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب». ولا خلاف أن أولاد الأولاد، وإن سفلوا، بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.